صبا.نت
كتب: طارق عسراوي
بعد مئة وثلاث سنوات من وعد بلفور، لا يزال في هذه البلاد المسلوبة أبناء تتكئ على أكتافهم يحملونها بقداسة ومهابة، يسوّرونها بأرواحهم كأنها فردوسهم الأخير، وهم زيتُ سراجها المقدّس في وجه العتمة القاتمة وأقمار ليلها الحالك،
ولا يزال فيها أبناء لا يدجن وعيهم كل ما جرى من اشتغال عليهم، في لحظة سماوية يعودون لفطرتهم العميقة فيسيرون بخطاهم الواثقة على صراط الحرية الأكيدة.
وهذه البلاد المخبوزة أفئدة أبنائها على جمر الحرية، لا يثنيها عن الوصول لفجرها جدار الاحتلال ولا عجز السياسي وأوهامه، وكما هو عهد أبنائها يكتبون أسماءهم بأحرف العزة والجلال.
فبينما ظننا منذ إضراب الحرية والكرامة أن الأسرى أصيبوا بخيبة التخلي، يدخل الأسير المقاتل ماهر الأخرس في هذه الأثناء يومه الثالث بعد المئة في إضرابه عن الطعام، هي كلمة واحدة، قالها ولم تثنه عنها أوجاعه وآلامه، الحرية، وحدها الحرية شمس روحه العنيدة، قوت جسده المحارب، صورة أبنائه والمدى المفتوح أمام عيني سيلة الظهر وصولاً إلى ساحل البلاد المشتهاة.
في الوقت ذاته، يعيد بلال رواجبة برصاصة واحدة الوضوح إلى شكل الاحتلال، يعيد ضبط البوصلة، فرصاصة بلال لها صدى أبعد من مداها، وأعمق من صوتها، فكثر أولئك الذين قالوا لماذا ؟ ما الذي دفع شاباً تشرِقُ الشمس من ضحكته لمستقبله الآمن إلى تلقيم مسدسه؟!
فالحقيقة أن ما فعله بلال ما هو إلا استجابة الدم في عروق ابن البلاد لنداء أمه الأولى، فلا وظيفةٌ، ولا انضباط عسكرياً، ولا ضحكة الأبناء، ولا دفء الزوجة، تحول دون سحر البلاد، البلاد التي حين همست بلال، أجاب بصوته الذهبي: لبيّك.
لا بد أن الاحتلال يعي فشل أدواته في تمييع الوعي الوطني، وتسويفه، ويعرف حق المعرفة جسارة الأرض التي تلد ماهر الأخرس وبلال رواجبة، وأنه مهما اشتغل وأدواته -وأعني الاحتلال- فإنه لن ينجح في محو وعينا الوطني، وما يصيبنا من انشغال وانغماس في همومنا الشخصية ليس موتاً، وما هو إلا غفوة طارئة سرعان ما نرتد بعدها إلى وعينا الوطني واثقين بصواب الطريق، طريق خلاصنا الأكيد.